فصل: باب العموم والخصوص

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الصاحبي ***


باب سنن العرب في حقائق الكلام والمجاز

نقول في معنى الحقيقة والمجاز‏:‏ إن الحقيقة - من قولنا حَقَّ الشيء إذا وجب‏.‏ واشتقاقه من الشيء المحقَّق وهو المُحْكَم، تقول‏:‏ ثوب محقَّق النَّسْج أي مُحْكَمُه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تَسرْبلْ جِلدَ وجهِ أبيك إنّا *** كَفيناكَ المحقَّقَةَ الرِّقاقا

وهذا جنس من الكلام يُصدِّق بعضُه بعضًا من قولنا‏:‏ حَقٌّ وحقيقة‏.‏ ونصُّ الحِقاق‏.‏ فالحقيقة‏:‏ الكلام الموضوع موضِعَه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل، ولا تقديم فيه ولا تأخير، كقول القائل أحمدُ اللهَ على نِعَمِهِ وإحسانه‏.‏ وهذا أكثر الكلام‏.‏ قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏والذين يؤمنونَ بما أُنزل إليكَ وما أنزل من قبلك وبالآخِرة هم يوقِنُون‏}‏ وأكثر ما يأتي من الآي على هذا‏.‏ ومثله في شعر العرب‏:‏

لَمالُ المرءِ يُصْلحِهُ فيَغْنى *** مفاقِرَه أعَفُ من القُنوعِ

وقول الآخر‏:‏

وفي الشرِّ نَجَـاةٌ حِ *** ينَ لا يُنْجيكَ إحْسانُ

وأمّا المجاز - فمأخوذ من جازَ، يَجُوزُ إذا استنَّ ماضيًا تقول‏:‏ جاز بنا فلان‏.‏ وجازَ علينا فارِس هذا هو الأصل‏.‏ ثم تقول‏:‏ يجوز أن تفعلَ كذا أي‏:‏ يَنْفُذ ولا يُرَدُّ ولا يُمْنَع‏.‏ وتقول‏:‏ عندنا دراهم وَضَح وازِنَة وأخرى تَجُوزُ جَوَازَ الوازِنَة أي‏:‏ إن هذه وإن لم تكن وازِنة فهي تجوز مجازَها وجوازها لِقْربِها منها‏.‏ فهذا تأويل قولنا‏:‏ مجاز أي‏:‏ إن الكلام الحقيقيّ يَمْضي لِسَنَنَهِ لا يُعْتَرض عليه، وقد يكون غيره يجوز جوازه لقُربه منه، إلاِّ أنّ فيه من تشبيهٍ واستعارَة وكفٍّ ما ليس في الأول، وذلك كقولك‏:‏ عطاءُ فلان مُزْنٌ واكفٌ فهذا تشبيه وقد جاز مجاز قوله‏:‏ عطاؤه كثير وافٍ ومن هذا في كتاب الله جلّ ثناؤه‏:‏ سَنَسِمُه على الخُرطوم فهذا استعارة‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وله الجواري المُنْشآتُ في البحر كالأعلام‏}‏ فهذا تشبيه ومنه قول الشاعر‏:‏

ألَمْ ترَ أنّ الله أعطاكَ سـورَةً *** تَرَى كلَّ مَلك دُونها يَتَذَبـذَبُ

بأنّك شمسٌ والملوكُ كواكـبٌ *** إذا طَلَعَتْ لم يبْدُ منهن كوكبُ

فالمجاز هنا عند ذِكر السُّورَة وإنما هي من البناء‏.‏ ثم قال يتذبذب والتذبذب يكون لِذَباذِب الثوب وهو ما يتدلّى منه فيضطرب ثم شبهه بالشمس وشبههم بالكواكب‏.‏

وجاء هذان البابان في نُظوم كتاب الله جلّ ثناؤه، وكذلك يجيء بعدهما ما نذكره في سُنَن العرب لتكون حجَّة الله جلّ اسمه عليهم أكَدَ، ولِئَلاَّ يقولوا‏:‏ إنما عجزنا عن الإتيان بمثله لأنه بغير لغتنا وبغير السُّنن التي نَسْتَنُّها‏.‏ لا، بل أنزله جل ثناؤه بالحروف التي يعرفونها وبالسُّنن التي يسلكونها في أشعارهم ومخاطباتهم ليكون عجزهم عن الإتيان بمثله أظهرَ وأشهر‏.‏ ثم جعله تبارك اسمه أحد دلائل نُبوّة نبيّنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم‏.‏ ثم أعلمهم ألاَّ سبيل لهم إلى معارَضته، وقَطَع العُذر بقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏قل لَئن اجتمعت الإنسُ والجِنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا‏}‏‏.‏

فمن سنن العرب مخالفة ظاهرِ اللفظ معناه، كقولهم عند المدح‏:‏ قاتله الله ما أشعره فهم يقولون هذا ولا يريدون وقوعه‏.‏ ومن قول امرئ القيس يصف راميًا‏:‏

فهو لا تَنْمِي رَميتَّـه *** مالهُ لا عُدَّ من نَفَرِه

يقول‏:‏ إذا عدَّ نفره لم يعدَّ معهم، كأنه قال‏:‏ قتله الله، أماته الله، حتى لا يعدَّ‏.‏

ومنه قولهم‏:‏ هوَتْ أمُّه‏.‏ وهَبِلَتْهُ‏.‏ وثكلَته قال‏:‏ كعب بن سعد يرثي أخاه‏:‏

هَوَتْ أمُّهُ ما يَبْعَثُ الصبحُ غاديًا *** وماذا يؤَدّى الليلُ حـينَ يؤوبُ

وهذا يكون عند التعجب من إصابة الرجُل في رميْه أو في فعل يفعله وكان عبد الله بن مسلم بن قتيبة يقول في هذا الباب‏:‏ من ذلك الدعاءُ على جهة الذم لا يراد به الوقوعُ كقوله الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏قُتل الخَرَّاصُون‏}‏ و‏{‏قُتل الإنسانُ ما أكْفَره‏}‏ و‏{‏قاتلهم الله أنَّى يُؤَفكون‏}‏ وأشباه ذلك‏.‏

قال أحمد بن فارس‏:‏ وهذا وإن أشبه ما تقدم ذكره فإنه لا يجوز لأحد أن يُطلق فيما ذكره الله جلّ ثناؤه أنه دعاء لا يراد به الوقوع، بل هو دعاء عليهم أراد الله وقوعه بهم فكان كما أراد، لأنهم قُتلوا وأهلكوا وقوتلوا ولُعنوا، وما كان لله جلّ ثناؤه ليدعوَ على أحد فتَحِيدَ الدعوة عنه‏:‏ قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يدا أبي لَهَب‏}‏ - فدعا عليه ثم قال – ‏{‏وتبَّ‏}‏ أيّ وقد تبّ وحاق به التبَّاب‏.‏ وابن قتيبة يُطِلق إطلاقات منكرةً ويروي أشياءَ شنعة، كالذي رواه عن الشَّعْبِيّ أنَّ أبا بكر وعمر وعليًّا توُفوا ولم يجمعوا القرآن‏.‏ قال‏:‏ وروى شَريك عن إسماعيل بن أبي خالد قال‏:‏ سمعت الشَّعبي يقول ويحلف بالله‏:‏ لقد دخل علي حُفرته وما حِفظ القرآن‏.‏ وهذا كلام شنع جدًّا في من يقول ‏"‏سَلُوني قبل أن تَفقِدوني، سلوني فما من آية إلاَّ أعلم أبليلٍ نَزلَت أم بنهار، أم في سَهْل أم في جبل‏"‏ وروى السُّدّيّ عن عبدِ خيرٍ عن عليَّ رضي الله تعالى عنه أنه رأى من الناس طَيْرَةً عند وفاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فأقسَمَ ألاَّ يضع على ظهره رداءً حتى يجمع القرآن قال‏:‏ فجلس في بيته حتّى جمع القرآن، فهو أول مصحف جُمع فيه القرآن، جَمعه في قلبه، وكان ند آل جعفر‏.‏ وحدّثنا علي بن إبراهيم عن علي بن عبد العزيز قال‏:‏ قال أبو عبيد حدّثني نصر بن بابٍ عن الحجاج عن الحكم عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي أنه قال‏:‏ ما رأيتُ أحدًا أقرى من عليّ صلوات الله عليه، صلّينا خلفه فأسْوأ بَرْزخًا ثم رجَع فقرأه ثم عاد إلى مكانه قال أبو عبيد البرزخ‏:‏ ما بينَ كل شيئين، ومنه قيل للميت‏:‏ هو في البرزخ، لأنه بين الدنيا والآخرة، فأراد أبو عبد الرحمن بالبرزخ ما بين الموضع الذي أسقط علي صلوات الله عليه منه ذلك الحرفَ إلى الموضع الذي كان انتهى إليه‏.‏

باب أجناس الكلام في الاتفاق والافتراق

يكون ذلك على وجوه‏:‏ فمنه اختلاف اللفظ والمعنى، وهو الأكثر الأشهر، مثل رجل‏.‏ وفرس وسيف‏.‏ ورمح ومنه اختلاف اللفظ واتفاق المعنى، كقولنا‏:‏ سيف وعَضب ولَيْث وأسَد على مذهبنا في أن كل واحد منهما فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة

ومنه اتفاق اللفظ واختلاف المعنى، كقولنا عين الماء وعين المال وعين الرّكبة وعين الميزان ومنه في كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏قضى‏}‏ بمعنى‏:‏ حَتَم كقوله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏قضى عليها الموتَ‏}‏ وقضى بمعنى‏:‏ أمرَ كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلاَّ إيّاه‏}‏ أي أمر‏.‏ ويكون قضى بمعنى‏:‏ أعَلَم كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب‏}‏ أي أعلمناهم‏.‏ وقضى بمعنى‏:‏ صَنَع كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فاقْضِ ما أنتَ قاضٍ‏}‏ وكقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اقْضوا إليَّ‏}‏ أي اعملوا ما أنتم عاملون‏.‏ وقضى‏:‏ فَرَغ‏.‏ ويقال للميت‏:‏ قَضَى أي فرغ‏.‏ وهذه وإن اختلفت ألفاظها فالأصل واحد‏.‏

ومنه اتفاق اللفظ وتضادُّ المعنى ك ‏"‏الظنّ‏"‏ وقد مضى الكلام عليه‏.‏

ومنه تقارب اللفظين والمعنيين ك ‏"‏الحَزْم‏"‏ و‏"‏الحَزن‏"‏‏.‏ فالحَزمُ من الأرض أرفع من الحَزن‏.‏ وكم الخَضْم وهو بالفم كله‏.‏ والقَضم وهو بأطراف الأسنان‏.‏

ومنه اختلاف اللفظين وتقارب المعنيين كقولهم مدحه إذا كان حيًّا وأبَّنَه إذا كان ميتًا‏.‏

ومنه تقارب اللفظين واختلاف المعنيين وذلك قولنا حَرِجَ إذا وقع في الحَرج وتَحرَّج إذا تباعد عن الحرج‏.‏ وكذلك أثِمَ‏:‏ وتأثَّمَ‏.‏ وفَزِعَ إذا أتاه الفَزَع وفُزّعَ عن قلبه إذا نحِّي عنه الفزع قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏حتّى إذا فُزّعَ عن قلوبهم‏}‏ أراد والله أعلم‏:‏ أخرِج منها الفزعُ‏.‏

باب القلب

ومن سنن العرب القلبُ‏.‏ وذلك يَكون في الكلمة، ويكون في القِصَّة‏:‏ فأمّا الكلمة - فقولهم‏:‏ جَذَبَ وجبَذَ وبَكلَ‏.‏ ولبَكَ وهو كثير وقد صنّفه علماء اللغة، وليس من هذا فيما أظن من كتاب الله جلّ ثناؤه شيءٌ‏.‏

وأما الذي في غير الكلمات - فقولهم‏:‏

كما عُصِبَ العِلْباءُ بالعودِ ***

و‏:‏

كما كان الزِّناءُ فريضة الرَّجْمِ ***

و‏:‏

كأنّ لونَ أرضه سماؤُهُ ***

و‏:‏

كأنّ الصفا أوْراكُها ***

إنما أراد‏:‏ كان أوراكَها الصَّفا، ويقولون‏:‏ أدخلتُ الخاتَمَ في إصبعي و‏:‏

تشقى الرِّماحُ بالضَّياطِرَةِ الحُمرِ ***

و‏:‏

كما بَطنْتَ بالفَدَنِ السيَّاعا ***

و‏:‏

حَسَرْتُ كَفِّي عن السِّرْبالِ ***

وإنما حَسَرَ السِّربالَ عن كفه‏.‏ ومثله في كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏خُلِق الإنسانُ مِن عَجَلَ‏}‏ ومنه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وحَرَّمْنا عليه المَراضِعَ من قبلُ‏}‏ ومعلوم أن التحريم لا يقع إلا على مَن يلزَمُه الأمر والنّهي، وإذا كان كذا فالمعنى‏:‏ وحرَّمنا على المراضع أن يرضِعْنَه‏.‏ ووجه تحريم إرضاعه عليهن أن لا يقبَل إرضاعهن حتى يُرَد إلى أمّه‏.‏ قال بعض علمائنا‏:‏ ومنه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فإنهم عدوٌّ لي إلا ربَّ العالمين‏}‏ والأصنام لا تعادي أحدًا، فكأَنَّهُ قال‏:‏ فإني عدوٌّ لهم‏.‏ وعداوته لها بغضه إيّاها وبراءته منها‏.‏

باب الإبدال

ومن سنن العرب إبدالُ الحروف وإقامة بعضها مقام بعض، ويقولون مَدَحَه‏.‏ ومَدَهَه وفَرسٌ رِفلٌّ‏.‏ ورِفنٌّ وهو كثير مشهور قد ألَّف فيه العلماء‏.‏ فأمّا ما جاء في كتاب الله جل ثناؤه فقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فانْفَلقَ فكان كلُّ فرْق‏}‏ فاللام والراء يتعاقبان كما تقول العرب‏:‏ فلقُ الصبح‏.‏ وفَرَقه‏.‏ وذُكر عن الخليل ولم أسمعه سماعًا أنه قال في قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فجاسوا‏}‏‏:‏ غنما أراد فحاسوا فقامتا لجيم مقام الحاء،وما أحسب الخليل قال هذا ولا أحقُّه عنه‏.‏

باب الاستعارة

ومن سنن العرب الاستعارة، وهو أن يضعوا الكلمة للشيء مسْتعارة من موضع آخر فيقولون‏:‏ انشقت عصاهم إذا تفرقوا‏.‏ وذلك يكون للعصا ولا يكون للقوم‏.‏ ويقولون‏:‏ كشَفَتْ عن ساقها الحروبُ‏.‏ وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏كأنهم حمرٌ مسْتَنْفِرة‏}‏ يقولون للرجل المذموم‏:‏ إنما هو حمار‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

دُفِعتُ إلى شيخ بجنَبِ فِنائِهِ *** هو العِيرُ إلا أنّه يتكـلَّـمُ

ومنه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏الْتفَّتِ السَّاقُ بالسَّاق‏}‏ و‏{‏إنَّا لمردُودونَ في الحافرة‏}‏ أي في الخلق الجديد‏.‏ و‏{‏بَلْ رانَ على قلوبهم‏}‏ وتقول العرب‏:‏ رانَ به النُّعاس أي غلب عليه‏.‏ و‏{‏ولقد خَلقنا الإنسان في كَبَد‏}‏ أي ضيق وشدَّة‏.‏ و‏{‏لَنَسْفَعًا بالنًّاصِيةَ‏}‏‏.‏ و‏{‏امرأتُه حمّالة الحطب‏}‏ وقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فما بكَتْ عليهم السماءُ والأرض‏}‏ وتقول العرب ناقة تاجِرَة يريدون أنها تُنْفِّقُ نفسَها بحُسنها‏.‏ وقولهم جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ويَتَخَطَّفُ الناسُ من حولهم‏}‏ و‏{‏ألَمْ تَرَ أنهم في كل وادٍ يهيمون‏}‏ و‏{‏ألا إنما طائِرهم عندَ الله‏}‏ ويُراد حظُّهم وما يحصل لهم‏.‏ والعرب تقول‏:‏

فإني لستُ منكَ ولستَ مني *** إذا ما طارَ من مالي الثمينُ

أي حصل‏.‏

ومنه قول جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏أقِمِ الصلاة‏}‏ أي ائْتِ بها كما أمرتَ به و‏{‏إنَّ ربّك أحاطَ بالناس‏}‏ أي عَصَمَكَ منهم‏.‏ رواه شعْبَة عن أبي رَجاء عن الحَسَن ومن الاستعارة قولهم‏:‏ زالَتْ رحالةُ سابح كناية عن المرأة تستعصي على زوجها‏.‏ قال الشمّاخ‏:‏

وكنتُ إذا زالت رِحالَةُ سابحٍ *** شَمِتُّ به حتَّى لقيتُ مِثالَها

وكانت امرأته نَشَزَتْ عليه، وذلك قوله‏:‏

ألا أصبحتْ عِرْسي من البيت جامحًا *** بغيرِ بَلاءٍ سَـيِّئٍ مـا بَـدا لَـهـا

باب الحذف والاختصار

ومن سنُن العرب الحذف والاختصار، يقولون‏:‏ والله أفعلُ ذاك يريد لا أفعل‏.‏ وأتانا عند مَغيب الشمس‏.‏ أو حين أرادَ‏.‏ أو حينَ كادت تغرب قال ذو الرّمة‏:‏

فلمّا لَبِسْنَ الليلَ أو حين نَصَّبتْ *** له مِن خذا آذانها وهو جانِحُ

ومنه في كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏واسْأل القريَة‏}‏ أراد أهلّها‏.‏ و‏{‏الحجُّ أشهرٌ معلومات‏}‏‏.‏ وبنون فلان يَطَؤُهم الطريق أي أهله‏.‏ ونحن نَطأُ السماء أي مَطرها‏.‏ و‏{‏على خوف من فرعون وملاءِهم‏}‏ أي من آل فرعون‏.‏ و‏{‏وإذًا لأقناكم ضِعْفَ الحياة‏}‏ أي ضِعفَ عذابِها‏.‏ و‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات لنُدْخِلنَّهم في الصالحين‏}‏‏.‏ ومثله‏:‏ ‏{‏أنِ اضرِبْ بعصاك البحرَ فانفلق‏}‏ أي فضرب فانفلق‏.‏ ومنه ‏{‏أنيّ آمنتُ بربّكم فاسمَعُوني قيل ادْخلِ الجنةَ‏}‏ أراد الثناءَ الحسن‏.‏ ومنه ‏{‏فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله‏}‏ معناه‏:‏ فإذا عزم الأمر كَذبُوه‏.‏

باب الزيادة

قال بعض أهل العلم‏:‏ إنّ العرب‏!‏ تَزيد في كلامها أسماءً وأفعالًا‏.‏

أما الأسماء - فالاسم والوَجه والمِثْلِ‏.‏ قالوا‏:‏ فالاسم في قولنا بسم الله إنما أردنا بالله لكنه لمّا أشّبه القسم زِيدَ فيه الاسمُ‏.‏ أمّا الوجه فقول القائل‏:‏ وَجْهي إليك وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ويبقى وجهُ ربّك‏}‏ ثم قال الشاعر‏:‏

أستغفر اللهّ ذنبًا لستُ مُحْصِيَهُ *** ربَّ العباد إليه الوجهُ والعملُ

وأما المِثْل ففي قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فأْتوا بسورة من مِثْله‏}‏ ويقول قائلهم‏:‏ مثلي لا يَخضع لمثلك أي‏:‏ أنا لا أخضعُ لك‏.‏ قال الشاعر‏:‏

يا عاذِلي دعْني مِن عَذْلكا *** مِثليَ لا يَقبَل من مثلكـا

وقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وشَهد شاهد من بني إسرائيل على مثله‏}‏ أي عليه‏.‏

وأما الأفعال - فقولهم كاد في قول الشاعر‏:‏

حتّى تناول كَلْبـًا فـي دِيارهِـم *** وكادَ يسمو إلى الجُرفَيْنِ فارتَفعا

أراد وسما، ألا ترى أنه قال‏:‏ فارتفعَ‏.‏ وما يُزاد أيضًا من الأفعال قول القائل‏:‏ لا أعلم في ذلك اختلافًا وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏أم تُنَبِّئُونَه بما لا يعلم في الأرض‏}‏ أراد والله أعلم‏:‏ بما ليس في الأرض‏.‏

وقد تزاد حروف من حروف المعاني - كزيادة لا ومن وغير ذلك‏.‏ وقد مضى ذكره بشواهد‏.‏

باب التكرار

وسُنن العرب التكرير والإعادة إرادةَ الإبلاغ بحسب العناية بالأمر كما قال الحارث بن عُبَاد‏:‏

قَرّبا مرْبِط النَّعامةِ مِـنّـي *** لَقِحَتْ حَرْبُ وائِلٍ عن حِيالِ

فكرَّرَ قوله‏:‏ قَرِبا مربِط النّعامة مني في رؤوس أبيات كثيرة عناية بالأمر وأراد الإبلاغ في التنبيه والتحذير‏.‏ وكذلك قول الأشعر‏:‏

وَكَتِيبَةٍ لبَّسْتهـا بـكـتـيبة *** حتى يقول نساؤهم هذا فتى

فكرر هذه الكلمة في رؤوس أبيات على ذلك المذهب‏.‏ وكتكرير مَن كرَّر‏:‏

مَهْلًا بني عَمِّنا مهلًا موالينا ***

وكقول الآخر‏:‏

كم نعمة كانت لَهُ كَمْ كَمْ وَكَمْ ***

فكرّر لفظ كم لفرط العناية بقصد تكثير العدد‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ فعلى هذه السنة ما جاء في كتاب الله جلّ ثناؤه من قوله‏:‏ ‏{‏فَبأي آلاءِ رِبِّكُما تُكَذِّبان‏}‏‏.‏

فأما تكرير الأنباء والقِصَص في كتاب الله جل ثناؤه - فقد قيلت فيه وجوه‏.‏ واصح ما يقال فيه أن الله جل ثناؤه جعل هذا القرآن وعجْزَ القوم عن الإتيان بمثله أيةً لصحة نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم بيَّن وأوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القِصَّة في مَواضِعَ إعلامًا أنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاء وبأي عبارة عَبَّرَ‏.‏ فهذا أولى ما قيل في هذا الباب‏.‏

باب العموم والخصوص

العامُّ - الذي يأتي على الجملة لا يغادر منها شيئًا‏.‏ وذلك كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏خَلق كل دابّة من ماء‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏خالق كل شيء‏}‏‏.‏

والخاصُّ - الذي يتحلّل فيقع على شيء دون أشياء‏.‏ وذلك كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وامرأة مؤمنة إن وهَبتْ نفسها للنبي‏}‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏واتَّقونِ يا أولي الألباب‏}‏ فخاطب أهلَ العقلِ‏.‏

وقد يكون الكلامان متّصلين، ويكون أحدهما خاصًا والآخر عامًّا‏.‏ وذلك قولك لمن أعطى زيدًا درهمًا أعْط عمرًا، فإن لم تفْعل فما أعطيتَ تريد‏:‏ إن لم تُعطِ عمرًا فأنت لم تعطِ زيدًا أيضًا، وذلك غير محسوب لك‏.‏ ومثله في كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسولُ بَلّغْ ما أنزِلَ إليكَ من ربِّك‏}‏ فهذا خاص، يريد‏:‏ هذا الأمر المجدَّد بَلِّغْه، فإن لم تفعل ولم تبلغ هذا فما بلغت رسالته‏.‏ يريد‏:‏ جميع ما أرسلتَ به‏.‏

وأمّا العامُّ الذي يراد به الخاصُّ - فكقوله جل ثناؤه حكاية عن موسى عليه السلام «وأنا أولُ المؤمنين» ولم يرد كلَّ المؤمنين لأن الأنبياء قبله قد كانوا مؤمنين‏.‏ ومثله كثير‏.‏ ومنه‏:‏ ‏{‏قالتِ الأعرابُ آمَنَّا‏}‏ وإنّما قاله فريق منهم‏.‏ و‏{‏الذينَ قال لهم الناس‏}‏ إنما قاله نُعَيْم بن مسعود إن الناس أبو سفيان وعُيَيْنَة بن حِصْن‏.‏ ومنه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَنا أن نُرسِلَ بالآيات إلا أنْ كَذَّب بها الأوّلون‏}‏ أراد‏:‏ الآيات التي إذا كذّب بها نزل العذاب على المكذِّبين وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏ أراد به من المؤمنين لقوله‏:‏ ‏{‏ويستغفرون للذين آمنوا‏}‏‏.‏

وأما الخاصُّ الذي يُرادُ به العامّ - فكقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏يا أيّها النبي اتَّقِ الله ولا تُطعِ الكافرين والمُنافقين‏}‏ الخطاب له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والمراد الناسُ جميعًا‏.‏

باب إضافة الفعل إلى ما ليس بفاعل في الحقيقة

ومن سُنن العرب إضافة الفعل إلى ما ليس فاعلًا في الحقيقة، يقولون‏:‏ أراد الحائطُ أن يقعَ وفي كتاب الله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏جِدارًا يُريد أن يَنْقَضَّ‏}‏ وهو في شعر العرب كثير‏.‏ قال الشمّاخ‏:‏

أقامتْ على رَبعَيْهما جارتا صفًا *** كْمَيتا الأعالي جَوْنَتَا مُصْطلاهُما

فجَعل الأثافِيَّ مُقيمةً‏.‏ وقال‏:‏

وأشعثَ وَرَّادِ العِـدادِ كـأنّـهُ *** إذا انشقَّ في جَوز الفلاة فَليقُ

يصف طريقًا يَرِدُ ماء وهو لا وِرْدَ له‏.‏ ومنه قوله‏:‏

كأني كَسوْتُ الرَّحُل أحقَبَ سَهْوقًا *** أطاعَ لهُ من رامَـتَـيْن حَـدِيقُ

فجعل الحديثَ مطيعًا لهذا الحمارِ لمَا تمكّن من رَعيه، والحديق لا طاعة ولا معصية له‏.‏

باب الواحد يَرادُ به الجمع

ومن سُنن العرب ذكر الواحد والمراد الجميع، كقوله للجماعة ضَيْفٌ وعَدْوّ قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏هؤلاء ضيفي‏}‏ وقال‏:‏ ‏"‏ثم يُخْرِجكم طفلًا وقال‏:‏ لا نُفَرّق بين أحد منهم‏"‏ والتفريق لا يكون إلا بين اثنين‏.‏ ويقولون‏:‏ ‏"‏قد كَثُرَ الدِّرهَم والدِّينار‏"‏ ويقولون‏:‏

فقلنا أسْلِموا إنّا أخُوكُم ***

ويقولون‏:‏

كُلُوا في نِصف بطنكمُ تعيشوا ***

و‏{‏يا أيُّها الإنسانُ إنّكَ كادح‏}‏ و‏{‏يا أيُّها الإنسانُ ما غرَّك بربّك الكريم‏}‏‏.‏

باب الجمع يراد به واحدٌ واثنان

ومن سُنن العرب الإتيان بلفظ الجميع والمراد واحد واثنان كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وَليَشْهَدْ عذابَهما طائفة‏}‏ يُراد به واحد واثنان وما فوق‏.‏ وقال قَتَادةُ في قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏إن يُعْفَ عن طائفة منك تُعَذَّبْ طائفة‏}‏‏:‏ كان رجلًا من القوم لا يمالِئُهم على أقاويلهم في النبي صلى الله تعلى عليه وآله وسلم ويَسير مُجانِبًا لهم فسمّاهُ الله جلّ ثناؤه طائفة وهو واحد‏.‏ ومنه‏:‏ ‏{‏إنّ الذين ينادونك من وراء الحُجُرات‏}‏ كان رجلًا نادى يا محمَّد‏!‏ إنّ مدحي زَيْنٌ وإنّ ستمي شيْن فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وأله وسلم‏:‏ ويلك‏.‏ ذاك الله جل ثناؤه‏.‏ وقال فقد صَغَتْ قلوبكما وهما قلبان وقال‏:‏ بِمَ يَرجِعُ المرسلون وهو واحد يدلّ عليه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ارجِعْ إليهم‏}‏‏.‏

باب آخر

العرب تصف الجميعَ بصفة الواحد كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وإن كنتم جُنُبًا‏}‏ فقال جنبًا وهم جماعة‏.‏ وكذلك قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏والملائكة بعد ذلك ظهير‏}‏‏.‏ ويقولون‏:‏ قوم عَدْل ورِضىً قال زُهَيْر‏:‏

وإن يَشْتَجرْ قوم يَقُلْ سَرَواتهمْ *** هُمُ بيننا فَهُمُ رِضىً وهم عَدْلُ

وربما وصفوا الواحدَ بلفظ الجميع فيقولون‏:‏ بُرْمةٌ أشعارٌ وثوبٌ أهُدامٌ وحَبْلٌ أحْذاقٌ قال‏:‏

جاء الشتاء وقميصي أخْلاَقْ *** شَراذِمٌ يضحك منه التَّوَّاقْ

فأخبرني علي بن إبراهيم عن محمد بن فرح عن سَلمة عن الفرّاء قال‏:‏ التَّوّاق انبه‏.‏ ومن الباب ‏{‏ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله‏}‏ إنما أراد المسجد الحرام‏.‏ ويقولون‏:‏ أرض سَبَاسب‏"‏ يسمّون كل بقعة منها سَبْسَبًا لاتِّساعها‏.‏

ومن الجمع الذي يُراد به الاثنان قولهم‏:‏ امرأة ذات أوْراكٍ ومآكِمَ‏.‏

باب مخاطبة الواحد بلفظ الجميع

ومن سنن العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجميع، فيقال للرجل العظيم انظروا في أمري‏.‏ وكان بعض أصحابنا يقول‏:‏ إنما يقال هذا لأنّ الرّجل العظيم يقول‏:‏ نحن فعَلْنا فعلى هذا الابتداء خُوطبوا في الجواب‏.‏ قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏قالَ ربِّ ارْجعُون‏}‏‏.‏

باب آخر

العرب تذكر جماعة وجماعة، أو جماعة وواحدًا، ثم تخبر عنهما بلفظ الاثنين‏.‏ يقول الأسْوَدُ‏:‏

إن المنيِّةَ والحُتوفَ كِلاهمـا *** يوفي المَخارِمَ يَرْقُبانِ سوادي

وقال آخر‏:‏

ألم يَحْزُنكَ أنّ حبالَ قَيسْ *** وتَغْلِبَ قد تَبَايَنَتا انقطاعا

وقد جاء مثله في القرآن‏:‏ قال الله تبارك اسمه‏:‏ ‏{‏إن السماواتِ والأرضَ كانتا رَتْقًا فَفَتَقْناهما‏}‏

باب مخاطبة الواحد خطاب الجمع إذا أريد بالخطاب هو ومَنْ معه

قال الله جلَّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏يا أيّها النبيُّ إذا طَلّقْتُم النساءَ فطلِّقوهن لعِدَّتهنّ‏}‏ فخوطب صلى الله تعالى عليه واله وسلم بلفظ الجميع لأنه أريد هو وأمّته‏.‏ وكان ابن مسعود يقرأ ارجعوا إليهم مِدْرَهَهُم‏.‏

باب تحويل الخطاب من الشاهد إلى الغائب

العربُ تخاطِب الشاهدَ، ثم تحول الخِطابَ إلى الغائب‏.‏ وذلك كقوله النَّابغة‏:‏

يا دارَ مَيَّةَ بالعَلياءِ فالـسَّـنَـدِ *** أقْوت وطالَ عليها سالِفُ الأبَدِ

فخاطب ثم قالَ أقوتْ وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏حتى إذا كنتم في الفُلك وجَرّيْنَ بهم‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما آتيْتُم من زكاة تريدون وجهَ الله فأولئك هم المُضْعِفون‏}‏‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏ولكن اللهَ حبَّبَ إليكم الإيمان‏}‏ - وقال في آخر الآية – ‏{‏فأولئك هم الراشِدون‏}‏‏.‏ ومنه قوله‏:‏

أسِيئي بنا أوْ أحسنِي لا ملومةٌ *** لديْنا ولا مَقْلِيَّةٌ إنّ تقـلّـتِ

باب تحويل الخطاب من الغائب إلى الشاهد

وقد يجعلون خطابَ الغائب للشاهد، قال الهُذَلِيّ‏:‏

يا ويحَ نفسي كان جدَّهُ خـالـدٍ *** وبياضُ وجهك للتراب الأعْفَرِ

فخبَّرَ عن خالد ثم واجَهَ فقال‏:‏ وبياض وجهك‏.‏ ومنه‏:‏

شَطتْ مزَار العاشقِينَ فأصْبَحَتْ *** عسرًا عليَّ طِلابُك ابنةَ مخرَمِ

باب مخاطبة المخاطب

ثم يجعل الخطاب لغيره أو يُخْبر عن شيء ثم يُجعل الخبر المتصِل به لغيره

قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فإن لم يستجيبوا لكم‏}‏ - الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم قال للكفار – ‏{‏فاعلموا أنما أنزلَ بعلم الله‏}‏ يدلّ على ذلك قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ ربُّكما يا موسى‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فلا يخرجنّكما من الجنة فتشقى‏}‏ وقريب من هذا الباب أن يبتدأ الشيء ثم يخبر عن غيره كقول شدَّاد بن مُعاوِية‏:‏

ومَن يَكُ سائلًا عنّي فإني *** وجِرْوَةَ لا تَرودُ ولا تُعارُ

وجروَة فرسه، فالمسألة عنه والخبر عن غيره‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

وإن امْرأُ أسـرَى إلـيك ودونَـه *** من الأرض مَوْماةٌ ويَهْماءُ سَمْلقُ

لَمَحْقُوقَةٌ أنْ تَستجيبي لصـوتـه *** وأنْ تعلمي أنّ المُعان مـوَفَّـقُ

وقد جاء في كتاب الله جلّ ثناؤه ما يشبه هذا وهو قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هادوا الصابئينَ والنّصارى والمجوسَ والذين أشركوا‏}‏ - فبدأ بهم ثم قال‏:‏ ‏{‏إنّ الله يفصِلُ بينهم‏}‏ بدأ بهم ثم حوَّل الخطاب‏.‏ ومنه قول القائل‏:‏

لَعَلّيَ إنْ مالَتْ بي الريحُ مَيلةً *** على ابنِ أبي ذِبّان أن يتَندَّما

فذكر نفسه وترك وأقبل على غيره، كأنه أراد‏:‏ لعل ابن أبي ذِبّانَ أن يتندم إن مالَتْ بي الريحُ عليه‏.‏ ومثله في كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏والذين يتُوَفَّوْن منكم وَيَذَرُون أزواجًا يتَربَّصْنَ‏}‏ فخبَّر عن الأزواج وترك الذين‏.‏ ومثله‏:‏

بَني أسَدٍ إنْ ابنَ قيْس وقتلَه *** بغير دَمٍ دارُ المذلَّة حُلَّتِ

فترك ابن قيس وخبَّر عن القتل، كأنه قال‏:‏ قتلُ ابن قيس ذُلّ‏.‏

باب الشيئين ينسب الفعل إليهما وهو لأحدهما

وينسبون الفعل إلى اثنين وهو لأحدهما‏.‏ وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فلمّا بلغا مجمعَ بينهما نَسِيا حوتَهما‏}‏ وقد بلغا وكان النسيان من أحدهما لأنه قال‏:‏ ‏{‏إنّي نسيتُ الحوتَ‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏مَرجَ البحْرينِ يلْتَقيان‏}‏ - ثم قال – ‏{‏يُخرَجُ منهما اللؤلؤ والمرْجان‏}‏ وإنما يُخرَجان من المِلحِ لا العذب‏.‏

وينسبون الفعل إلى الجماعة وهو لواحد مهم‏.‏ قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وإذا قتلتم نفسًا‏}‏ وإنما كانا القاتل واحدًا‏.‏

باب نسبة الفعل إلى أَحد اثنين وهو لهما

قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وإذا رأوا تجارةً أو لهْوًا انْفَضُّوا إليها‏}‏ وإنما انفضوا إليهما‏.‏ وقال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏والله ورسولُه أحقُّ أن يُرضوه‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها‏}‏‏.‏ ثم قال الشاعر‏:‏

إنَّ شَرْخَ الشباب والشَّعرَ الأس *** ودَ ما لم يُعاصَ كان جنونـا

وقال آخر‏:‏

نحنُ بما عندَنا وأنت بما عن *** دكَ راضٍ والرأيُ مختلِفُ

باب أمر الواحد بلفظ أمر الاثنين

تقول العربُ‏:‏ افعلا ذاك ويكون المخاطب واحدًا‏.‏ أنشد الفرّاء‏:‏

فقلتُ لِصاحِبي لا تحبسانا *** بنزع أصوله واجدزَّ شِيحا

وقال‏:‏

فإنْ تزجُراني يا ابن عَفَّانَ أنْزَجرْ *** وإنْ تَدَعاني أحْمِ عِرْضًا مُمنَّعـا

وقال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ألْقيا في جهنم‏}‏ وهو خطاب لخَزَنَة النّار والزَّبانِيَة‏.‏ قال‏:‏ ونُرى أن أصل ذلك أنَّ الرُّفْقة أدنى ما يكون ثلاثةُ نفرَ فجرى كلام الواحد على صاحبيْه، ألا ترى أن الشعراء أكثر الناس قولًا يا صاحبَّي ويا خليليّ‏.‏

باب الفعل يأتي بلفظ الماضي وهو راهنٌ أو مستقبل

وبلفظ المستقبل وهو ماضٍ

قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏كنتم خيرَ أمة‏}‏ أي‏:‏ أنتم‏.‏ وقال جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏أتى أمرُ الله‏}‏ أي‏:‏ يأتي‏.‏ ويجيء بلفظ المستقبل وهو في المعنى ماضٍ‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ولقد أمُرُّ على اللئيم يَسبُّنـي *** فَمَضيْتُ عنه وقلتُ لا يعنيني

فقال أمُرُّ ثم قال‏:‏ مضيت‏.‏ وقال‏:‏

وما أضْحِي ولا أمسَيْتُ إلا *** رأوْني منهمُ في كَوَّفـانِ

وفي كتاب الله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏فلم تقتلون أنبياءَ الله من قبل‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏واتَّبَعوا ما تتلو الشياطين‏}‏ أي ما تَلَتْ‏.‏ وقال آخر‏:‏

وندمان يزيد الكأس طيبًا *** سقيت إذا تغوَّرت النجوم

ومثله‏:‏ ‏{‏وقالت اليهودُ والنصارى نَحنْ أبناءُ الله وأحباؤه قل فلِمَ يعذِّبكم‏}‏ المعنى‏:‏ فلم عذَّب آباءكم بالمسخ والقتل‏؟‏ لأن النبي صلى الله تعالى وأله وسلم لم يَؤْمَر بأن يحتجّ عليهم بشيء لم يكن، لأن الجاحد يقول‏:‏ إني لا أعذَّب‏.‏ لكن احتج عليهم بما قد كان‏.‏

باب المفعول يأتي بلفظ الفاعل

تقول‏:‏ سِرُّ كاتم أي مكتوم‏.‏ وفي كتاب الله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏لا عاصم اليومَ من أمر الله‏}‏ أي لا معصوم و‏{‏من ماءٍ دافِق‏}‏ و‏{‏عِيشَةٍ راضية‏}‏ أي مَرْضِيٍ بها‏.‏ و‏{‏جعلنا حرمًا آمِنًا‏}‏ أي مأمونًا فيه ويقول الشاعر‏:‏

إنَّ البَغيضَ لَمَنْ يُمَلُ حـديثُـه *** فانقَعْ فؤادَكَ من حديث الوامِقِ

أي المَوْمُوق‏.‏ ومنه‏:‏

أنا شِرَ لا زالَتْ يمينُك أشِرَة ***

أي‏:‏ مأشورة‏.‏

وزعم ناس أنّ الفاعل يأتي بلفظ المفعول به‏.‏ ويذكرون قوله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏إنّه كان وَعْدُه مأتِيًا‏}‏ أي‏:‏ آتيًا‏.‏ قال ابنُ السِّكيت‏:‏ ومنه عيْشٌ مغبون يريد أنه غابِن غيرَ صاحبه‏.‏

باب آخر

من سُنن العرب وصفُ الشيء بما يقع فيه أو يكون منه، كقولهم‏:‏ ‏{‏يومٌ عاصِف‏}‏ المعنى‏:‏ عاصفُ الرّيح‏.‏ قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏في يوم عاصف‏}‏ فقيل‏:‏ عاصف لأنَّ عُصُوفَ ريحه يكون فيه‏.‏ ومثله‏:‏ ليلٌ نائم وليلٌ ساهر لأنه يُنام فيه ويُسَهرْ قال أوس‏:‏

خُذِلْتُ على ليلةٍ سـاهِـرَهْ *** بصحْراء شرْجٍ إلى ناظِرَهْ

وقال ابنُ بَرّاق‏:‏

تقولُ سُلَيْمى لا تَعَرَّضْ لِتَلفَةٍ *** وليلُك مِن ليل الصعالِيك نائِمُ

ومثله‏:‏

لقد لُمْتِنا يا أمّ غيلان في السُّرى *** ونِمْتِ وما ليلُ المَطِيّ بـنـائمِ

ويقولون‏:‏ لا يَرْقُد وِسادُه وإنما يريدون متوسِّد الوِساد‏.‏

باب معاني أبنية الأفعال في الأغلب الأكثر

أول ذلك فعَّلتُ يكون بمعنى التكثير‏.‏ نحو‏:‏ ‏{‏غَلَّقَت الأبوابَ‏}‏‏.‏ وبمعنى أقْفَلْتُ نحو خبَّرْتُ‏.‏ وأخبَرْتُ‏.‏ ويكون مضادًّا لأفْعَلتُ نحو أفْرَطتُ‏:‏ جُزْتُ الحَدَّ‏.‏ وفرَّطتُ‏:‏ قَصَّرتُ‏.‏ ويكون بِنيْةً لا لمعنى نحو‏:‏ كلَّمت‏.‏ ويكون فَعلتُ‏:‏ نَسبْتُ كقولك‏:‏ شَجَّعْتَه‏.‏ وظَلَّمْتُه‏:‏ نسبتُه إلى الشجاعة والظلم‏.‏

وأما أفْعَلَ فيكون بمعنى فعلْتُ تقول‏:‏ أسْقيْته وسقَّيْته‏:‏ قلت له سَقيًا لك‏.‏ ويكون بمعنى‏:‏ فعَلْتُ نحو مَحْضْتُه الوُدَّ‏.‏ وأمْحَضْته‏.‏ وقد يختلفان نحو أجْبَرته على الشيء وجبَرْت العَظمَ‏.‏ وقد يَتَضادّان نحو نَشَطْتُ العقْدَة‏:‏ عقَدْتُها‏.‏ وأنْشَطْتها إذا حَللْتها‏.‏

وفاعَلَ يكون من اثنين‏.‏ نحو ضاربَ، ويكون فاعَلَ بمعنى فَعَل نحن قاتلَهم اله وسافر، ويكن بمعنى فَعَّلَ نحو ضاعفَ وضَعَّفَ‏.‏

وتَفاعل يكون من اثنين، نحو تخاصما‏.‏ ويكون من واحد، نحو ترآءى له ويكون إظهارًا لغير ما هو عليه، نحو تغافَلَ‏:‏ أظْهَرَ غفلةً وليس بغافل‏.‏

وتَفَعَّلَ يكون لِتَكلُّف الشيء وليس به، نحو تَشَجَّع‏.‏ وتَعَقَّل‏.‏ ويكن بمعنى تفاعلَ نحو تعطّى‏.‏ وتعاطا‏.‏ ويكون الأخذ الشيء نحو‏:‏ تفقّهَ وتعلَّم‏.‏ ويكون منيّبًا نحو تَكلَّم‏.‏ ويكون تفعَّل بمعنى أفْعلْ نحو تعلَّم بمعنى أعلَمْ قال‏:‏

تعلَّمْ أنَّ بعد الشرّ خـيرًا

وأنّ لهذه الغُمَرِ انقشاعًا

وأما اسْتفعلَ فيكون بمعنى التكلف، نحو تعظَّمَ‏.‏ واسْتَعظَمَ وتكَّبَر‏.‏ واستَكْبَر ويكون استفعل بمعنى الاستدعاء والطلب نحو‏:‏ استَوْهبَ ويكون بمعنى فَعلَ‏:‏ قرَّ‏.‏ واستَقرَّ‏.‏

وأمّا افْتَعلَ فيكون بمعنى فَعلَ، نحو‏:‏ شَوَى‏.‏ واشْتَوى ويكون بمعنى حدوثِ صفةٍ فيه نحو‏:‏ افْتَقَرَ‏.‏

وأمّا انْفَعلَ فهو فعل المطاوعة‏.‏ نحو‏:‏ كَسَرْتُه‏.‏ فانْكَسَرَ وشَويْتُ اللحمَ فانْشوَى‏.‏ قال‏:‏

قد انْشَوى شِوَاؤُنا المُرَعْبَلُ

فاقْتَرِبوا من الغَدَاءِ فَكلُوا

باب الفعل اللازم والمتعدي بلفظ واحد

تقول‏:‏ كسبَ زيدٌ المالَ‏.‏ وكسَبَه غيرهُ‏.‏ وهَبَطَ‏.‏ وهَبَطَ غيره‏.‏ وجَبَرَتِ اليدُ‏.‏ وجَبَرْتُها‏.‏ يكون فَعلَ بمعنيين متضادَّين نحو بِعْتُ الشيءَ وبعتُه‏:‏ اشتريته‏.‏ وارَتَوْتُ الشيءَ أرخيتُه وشدَدْته‏.‏ وشَعَبْتُ الشيء جمعته وفرَّقْتُه‏.‏

باب البناء الدال على الكثرة

البناءُ الدالّ على الكثرة فَعُول‏.‏ وفَعَّال نحو‏:‏ ضَرْوب‏.‏ وضَرَّاب وكذلك مِفْعال إذا كان عادةً نحو مِعْطار وامرأةٌ مِذْكارِ إذا كانت تلِدُ الذُّكور وكذلك مِينَاث في الإناث‏.‏

باب الأبنية

الدالة في الأغلب الأكثر على معان وقد تختلف

يقولون‏:‏ ما كان علي فَعَلان دلّ على الحركة والاضطراب نحو النَّزَوان‏.‏ والغَلَبَان‏.‏ وفَعْلان يجيء في صفات تقع من جُوع وعَطَش نحو‏:‏ عَطْشان‏.‏ وغَرْثان أو ما يضادّ ذلك نحو‏:‏ رَيّان‏.‏ وسكران‏.‏

وفَعِلَ يكون في الوَجَع نحو وَجِعَ‏.‏ وحَبِطَ أو ما أشبهه من فَزَعٍ‏.‏ ويجيء من هذا فعِيل نحو‏:‏ سَقِيم ويكون من الباب بَطرٌ‏.‏ وفَرِحٌ وهذا على مُضادّة وَجِع وسَقِم‏.‏

قالوا‏:‏ الصفات بالألوان تأتي على أفْعلَ نحو أحْمَر‏.‏ وأسْوَد‏.‏

والأفعال منها على فَعُلَ مثل صَهُبَ‏.‏ وعلى فَعِلَ نحو صَدِيءَ‏.‏ وعلى أفْعالَّ مثل احْمَارٌ‏.‏ وكذلك العيوب الأدواء تكون على أفْعَلَ نحو أزْرَق‏.‏ وأعْوَر‏.‏ وأفعالها على فَعِلَ نحو عَوِر‏.‏ وشَتِرَ‏.‏ ويكون الأدْواء على فُعال نحو‏:‏ القُلاب‏.‏ والخُمار‏.‏ والأصوات أكثرها على هذا نحو‏:‏ الدُّعاء‏.‏ والصُّراخ‏.‏ وللأصوات باب آخر على فَعيل نحو الهَدِير‏.‏ والضَّجيج‏.‏ وفُعالَة يأتي أكثره على ما يفضُل عن الشيء ويَسقُط منه نحو النُّحاتة‏.‏ وفِعالَة في الصناعات كالِتّجار والنِّجارة‏.‏ويكون الفِعالُ في الأشياء كالعيوب‏:‏ كالنِّفار والشِّماس‏.‏ وفي السِّمات‏:‏ نحو العِلاط والخِباط، وفي بلوغ الأشياء نهايتها‏:‏ نحو الصّرام والجِزَاز‏.‏ وتكون الصفات اللازمة للنفوس على فَعيل نحو‏:‏ شريف وخفيف، وعلى أضدادها‏:‏ نحو وَضِيع وكبير وصغير‏.‏ هذا هو الأغلب وقد يختلف في اليسير‏.‏

باب الفرق بين ضدّين بحرف أو حركة

الفرق بين ضدَّين بحرف - قولهم‏:‏ يُدْوِي من الداء ويُداوِي من الدواء‏.‏ ويَخْفِر إذا أجار ويُخْفِر إذا نقص‏:‏ من خَفَرَ وأخْفَرَ، وهو كثير‏.‏

وما كان فرقه بحركة - فقولهم‏:‏ لُعَنَه إذا أكثر اللعنَ ولُعْنَة إذا كان يُلْعَن وهُزَأة وسُخَرَة‏.‏ وسُخْرَة‏.‏

باب التوهم والإيهام

ومن سنن العرب التوهم والإبهام وهو أن يَتوهم أحدهم شيئًا ثم يجعل ذلك كالحق‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ وقفتُ بالربْع أسأله وهو أكمل عقلًا من أن يسأل رسمًا يعلم أنه لا يَسمع ولا يَعقل لكنه تفجع لما رأى السِّكْنَ رحلوا وتوهَّم أنه يسأل الربع أن انْتَووْا‏.‏ وذلك كثير في أشعارهم، قال‏:‏

وقفتُ على رَبع لميَّة ناقتـي *** فما زلت أبكي عنده وأخاطبهُ

وأسألُ حتى كادَ ممـا أبِـثُّـهُ *** تكلّمني أحجارهُ ومَلاعـبُـهْ

وتوهُم وأوَهم أنّ ثَمَّ كلامًا ومُكَلِّما‏.‏ وبيَّن ذلك لّبِيدٌ بقوله‏:‏

فوقفتُ أسألها وكيف سؤالنا *** صُمًّا خوالِدَ ما يَبِين كلاَمُها

ومن الباب قوله‏:‏

لا تُفزِعُ الأرنبَ أهوالُها ***

إنما أراد‏:‏ ليس بها أرنب يُفْزَع‏.‏ وكذلك‏:‏

على لا حِبٍ لا يُهتدى لِمنَاره ***

إنما أراد‏:‏ لا مَار به‏.‏ وأظهرُ ذلك قول الجَعْدي‏:‏

سبقتُ صِياحَ فراريجـهـا *** وصَوتُ نواقِيسَ لم تُضْرَبِ

وقال أبو ذؤيب‏:‏

مُتَفَلّقٌ أنْساؤُها عن قـانـيءٍ *** كالقرطِ صاوٍ غُبْرْه لا يُرضَعُ

أو همَ أنّ ثَمَّ غَبْرًا، وإنما أراد‏:‏ لا غبر به فيرضع‏.‏

باب البسط في الأسماء

العرب تبسط الاسمَ والفعل فتزيد في عدد حروفهما، ولعل أكثر ذلك لإقامة وزنِ الشعرِ وتسوية قوافيه، وذلك قول القائل‏:‏

ولـيلةٍ خـامـدة خـمــودا *** طَخياءَ تُغْشي الجَدْيَ والفُرْقودا

فزاد ف الفَرْقَد الواوَ وضم الفاء لأنه ليس في كلامهم فَعْلولًا ولذلك ضم الفاء‏.‏ وقال في الزيادة في الفعل‏:‏

لو أنّ عَمْرًا همَّ أنْ يَرْقودا ***

ومنه‏:‏

أقولُ إذ خرّتْ على الكَلْكَالِ ***

أرادَ الكلكل وفي بعض الشعر ‏"‏فانْظور‏"‏ أراد‏:‏ ‏"‏فانْظُر‏"‏ وهذا قريبٌ من الذي ذكرناه في الخزم والزيادة التي لا معنى لَهَا‏.‏

باب القبض

ومن سنن العرب القَبْضُ محاذاةً للبسط الذي ذكرناه، وهو النقصان من عدد الحروف كقول القائل‏:‏

غَرْثَى الوِشاحَيْن *** صَموتُ الخَلْخَلِ

أراد الخلخالَ‏.‏ وكذلك قول الآخر‏:‏ وسُرُحٌ حُرْجُج أراد حُرجوجًا وهي الضامِر‏.‏ ويقولون‏:‏ دَرَسَ المنا يريدون المنازل و‏:‏

كأنما تُذْكى سنابكُها الحُبا *** أراد نار الحباحِب

وقال أبو النجم‏:‏

أمْسِكْ فلانُ عن فلِ ***

أراد عن فلان‏.‏

و‏:‏

ليس شيء على المَنونِ بِخالِ ***

أي‏:‏ بخالد‏.‏

ويقولون‏:‏

أسَعْدَ بنَ مالٍ ألمْ تعجبوا ***

وإنما أراد مالكًا‏.‏ وقال آخر‏:‏

وكادت فَزَارة تشقى بنـا *** فأولى فَزَارَةُ أولى فزارا

وقال أوس وهو الذي يسميه النحويون الترخِيم‏:‏

تَنكَّرْتِ منَّا بعد معرفة لَمِي ***

أراد‏:‏ لَميسَ‏.‏ وهذا كثير في أشعارهم، وما أحسب في كتاب الله جل ثناؤه منه، إلا أنه رُوي عن بعض القَرَأةِ أنه قرأ‏:‏ ونادوْا يا مالِ أراد يا مالكُ والله أعلم بصحة ذلك‏.‏ وربما وقع الحذف في الأول نحو قوله‏:‏

بسمِ الذي في كل سُورة سِمُهْ ***

أرد اسمه‏.‏ ولاه ابنُ عمك أراد‏:‏ لله ابنُ عمّك‏.‏

باب المحاذاة

معنى المحاذاة - أن يُجعل كلامٌ بحذاء كلام، فيؤْتى به على وزنه لفظًا وإن كان مختلفَين فيقولون‏:‏ الغدايا والعشايا فقالوا‏:‏ الغديا لانضمامها إلى العشايا‏.‏ ومثله قولهم‏:‏ أعوذ بك من السَّامَّة واللامَّة فالسّامّة من قولك‏:‏ سَمَّتْ إذا خَصَّتْ واللامَّة أصلها ألمَّتْ لكن لما قُرنت بالسّامّةِ جُعلت في وزنها‏.‏ وذكر بعض أهل العلم أن من هذا الباب كتابةَ المصحف، كتبوا والليل إذا سجى بالياء وهو من ذوات الواو لمّا قُرن بغيره مما يَكتب بالياء‏.‏ قال‏:‏ ومِن هذا الباب في كتاب الله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏ولو شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُم عليكم‏}‏ فاللام التي في لسلّطهم جواب لو ثم قال‏:‏ ‏"‏فليقاتلوكم‏"‏ فهذه حُوِّذيَت بتلك اللام، وإلاّ فالمعنى‏:‏ لسلّطهم عليكم فقاتلوكم‏.‏ ومثله لأعَذِّبنَّه عذابًا شديدًا أو لأذبحنّه - فهما لا ما قَسَم ثم قال - أو لَيَأتِينّي فليس ذا موضعّ قسم لأنه عُذْر للهُدْهد فمل يكن ليُقسِم على الهدهد أن يأتي بعُذر، لكنَّه لمّا جاء به على أثر ما يجوز فيه القسم أجراه مجراه، فكذا باب المحاذاة‏.‏ قال‏:‏ ومن الباب وَزَنْتُه فاتزَن‏.‏ وكِلْتُه فاكْتال أي استوفاه كَيْلًا ووزنًا‏.‏ ومنه قوله جلّ ثناؤه‏:‏ فما لكم عليهنّ من عِدّة تعتدُّونها تستوفونها لأنها حق للأزواج على النساء‏.‏

ومن هذا الباب الجزاء على الفعل بمثل لفظه، نحو‏:‏ ‏{‏إنما نحن مستهزؤن الله يستهزيء بهم‏}‏ أي يجازيهم جزاءَ الاستهزاء‏.‏ و‏{‏مَكَرْوا ومَكَر الله‏}‏ و‏{‏يَسْخَرْون منهم سَخِرَ الله منهم‏}‏ و‏{‏نَسْوا الله فَنَسِيهم‏}‏ و‏{‏وجزاء سَيِئةٍ سَيئّةٌ مثلُها‏}‏‏.‏ ومثل هذا في شعر العرب قول القائل‏:‏

ألا لا يجهلنْ أحدٌ علـينـا *** فنجهَلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا

باب الإضمار

من سُنن العرب الإضمار‏.‏ ويكون على ثلاثة أضرُب‏:‏ إضمارُ الأسماء، وإضمارُ الأفعال، وإضمارُ الحروف‏.‏

فمن إضمار الأسماء قولهم ألا يَسْلَمِي يريدون ألا يا هذه اسلمي‏.‏ وفي كتاب الله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏ألا يَسْجُدوا لله‏}‏ بمعنى‏:‏ ألا يا هؤلاء اسجدوا‏.‏ فلما لم يذكر هؤلاء بل أضمرهم اتصلت يا بقوله‏:‏ اسجدوا فصار كأنه فعل مستقبل‏.‏ ومثله قول ذي الرّمّة‏:‏

ألا يسْلَمِي يا دار مَيٍّ على البِلَى *** ولا زال مُنهلا بِجَرْعائِك القَطْرُ

وأخبرني علي بن إبراهيم عن محمد بن فَرَج عن سلمة عن الفرّاء سمع بعض العرب يقول‏:‏ ألا يَرْحَمْنا يعني‏:‏ ألا يا ربنا ارحمنا‏.‏ ويقولون‏:‏

يا هل أتاها على ما كان من حَدَثٍ ***

و‏:‏

يقولون لي يَحْلِفْ ولست بحالفٍ ***

بمعنى‏:‏ يا هذا احلِفْ‏.‏

ويُضْمِرُونَ مِن الأسماء مَنْ فيقولون‏:‏ ما في حَيِّنا إلا له إبلُ أي‏:‏ مَنْ لَهُ إبل‏.‏ وكَذَبتم بني شابَ قَرْناها أي‏:‏ مَن شاب‏.‏ وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وما منَّا إلا له مقام‏}‏ أي‏:‏ من له‏.‏ ويضمرون هذا كقول حُميْد‏:‏

أنت الهلالي الذي كانت مَرَّةً

سمِعنا به والأرْحَبِيُّ المُعَلفُ

أي‏:‏ وهذا الأرحبيّ يعني بعيره‏.‏

باب إضمار الحروف

ويضمرون الحروفَ فيقول قائلهم‏:‏

ألا أيهذا الزّاجري أشهدَ الوَغى ***

بمعنى أن أشهد‏.‏ ويقولون‏:‏ والله لَكانَ كذا بمعنى لقد‏.‏ ويقول النابغة‏:‏

لكلفتنِي ذنبَ امريء ***

وفي كتاب الله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏ألم غلبت الروم‏}‏ قالوا‏:‏ معناها لقد غلبت‏.‏ إلا أنه لما أضمر قد أضمر اللام‏.‏ وفي كتاب الله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏سنعيدها سيرتها الأولى‏}‏ فقالوا‏:‏ إلى سيرتها‏.‏ و‏{‏اختار موسى قومه‏}‏ أي من قومه‏.‏ ويقولون‏:‏ اشْتَقْتك أي إليك‏.‏ وهل يسمعونَكم بمعنى لكم‏.‏ وأوجاؤكم حًصرت أي قد حصرت‏.‏ ويقول قائلهم‏:‏ حلفتُ بالله لناموا أي لقد‏.‏ وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فإن أُحْصرْتم فما استيسرَ من الهَدْي‏}‏ أي فعليكم‏.‏ وقيل في قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تَنْكِحُوهنّ‏}‏ معناها عن وقوم يقولون‏:‏ في أن تنكحوهن‏.‏ وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ومن آياته يُرِيكم البرق‏}‏ أي أن يريكم البرق‏.‏ وكقوله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا‏}‏

باب إضمار الأفعال

من ذلك‏:‏ قيل‏.‏ ويقال‏.‏ قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فأمّا الذين اسْوَدّت وجوههم أكَفَرْتم‏}‏ معناه‏:‏ فيقال لهم، لأن أمّا لا بد لها في الخبر من فاء، فلما أضمر القول أضمر الفاء‏.‏ ومثله‏:‏

فلا تدفِنُوني إن دَفْني محـرّمٌ

عليكم ولكن خامِري أمَّ عامر

أي اتركوني للتي يقال لها خامري‏.‏ ومنه ‏{‏ثم يُخرِجكم طفلًا ثم لِتَبْلُغوا أشْدَّكم‏}‏ أي‏:‏ يعمّركم لتبلغوا أشدّكم‏.‏ ومن باب الإضمار‏:‏ أثَعْلَبًا وتَفِرُّ أي‏:‏ أترى ثعلبًا‏.‏ وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم‏}‏ أي يقولون‏:‏ وأسرَ رجلٌ أسيرًا ليلًا فلما أصبح رآه أسوَدَ فقال‏:‏ أعبدًا سائرَ الليلة كأنه قال‏:‏ أراني أسرت عبدًا‏.‏ ومن الإضمار ‏{‏قل لِمَنْ ما في السموات والأرض قل لله‏}‏ فهذا مضمَر كأنه لما سألهم عادوا بالسؤال عليه فقيل له‏:‏ ‏{‏قل لله‏}‏‏.‏ ومن الإضمار ‏{‏فقلنا أضربوه ببعضها‏}‏، كذلك - معناه‏:‏ فضربوه فحَيَّ، كذلك ‏{‏يُحيى اللهُ الموتى‏}‏ ومثله في كتاب الله كثير‏.‏

باب من الإضمار الآخر

العرب تضمر الفعل فيشتبه المعنى حتى يُعْتَبَر فُيوقَفَ على المراد‏.‏ وذلك كقول الخنساء‏:‏

يا صَخْـرُ وَرّادَ قـد تَـنَـاذَرَهُ *** أهلُ المواردِ ما في وِرْدِه عارُ

ظاهر هذا أن معناه‏:‏ ما على ما وردَه عار، وليس في ورد الماء عار فيُبْجَحَ به‏.‏ ولكن معناه‏:‏ ما في ترك ورْدِهِ مخافةً عارٌ‏.‏ وإنما عَنَتْ أنه ورد ماءً مخوفًا يتحاماه الناس فيُنذِرُ بعضهم بعضًا، تقول‏:‏ فهو يرد هذا الماء لجُرْأته‏.‏ ومثله قول النابغة‏:‏

فإني لا أُلامُ على دخـول *** ولكن ما وراءَكَ يا عِصَامُ

يقول‏:‏ لا ألام على ترك الدخول، لأنّ النُّعمان قد كان نذر دمَه متى رآه، فخاطب بهذا الكلام حاجبه‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

اأزمَعْتَ من آل ليلى ابتِـكـارًا *** وشَطَّتْ على ذي هوىً أن تُزارا

ظاهِرُ هذا‏:‏ أازمعتَ أن تبتكر منهم‏.‏ وإنّما المعنى‏:‏ أأزمعت من أجل آل ليلى وشوقك إليهم أن تبتكر من أهلك‏؟‏ لأنه عزم الرحلة إليها لا عنها، ألا تراه يقول‏:‏

وبانَتْ بها غَرَبات النَّوى

وبُدّلتُ شوقًا بها وادِّكارا

وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ألا يَسْتَأْذنك الذي يؤْمنون بالله واليوم الآخر أن يُجاهِدوا‏}‏ التأويل‏:‏ لا يستأْذنك الذي يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يقعدوا عن الجهاد‏.‏

باب التعويض

من سُنن العرب التَّعْوِيض - وهو إقامة الكلمة مقامَ الكلمة‏.‏ فيقيمون الفعلَ الماضي مقامَ الراهن، كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏قل سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين‏}‏ المعنى‏:‏ أم أنت من الكاذبين‏.‏ ومنه ‏{‏وما جعلنا القِبلةَ التي كنتَ عليها‏}‏ بمعنى‏:‏ أنتَ عليها‏.‏

ومن ذلك إقامة المصدر مقامَ الأمر، كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فسبحانَ الله حِين تُمسون وحينَ تُصبِحون‏}‏ والسُّبْحة‏:‏ الصلاة‏.‏ يقولون‏:‏ سَبّحْ سبحة‏.‏ فتأويلُ الآية‏:‏ سَبّحُوا للهِ جل ثناؤه، فصار في معنى الأمر والإغراء، كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فَضَرْب الرِّقاب‏}‏ ومن ذلك إقامةُ الفاعل مقامَ المصدر، يقولون‏:‏ قُمْ قائمًا‏"‏ قال‏:‏

قُمْ قائمًا قُم قائما *** لَقِيتَ عبدًا نائِمًا

وعُشَرَاء رائما *** وأمَةً مُرَاغِما

وفي كتاب الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ليس لِوَقْعَتِها كاذِبة‏}‏ أي تكذيب‏.‏

ومن ذلك إقامة المفعول مقام المصدر، كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏بأيّكم المفتون‏}‏ أي الفتنة‏.‏ تقول العرب‏:‏ ما له معقول‏.‏ وحَلفَ مَحْلوفَه بالله‏.‏ وجَهَدَ مجهوده‏.‏ ويقولون‏:‏ ما له معقول ولا مجلود ويريدون العَقْلَ والجَلد‏.‏ قال الشمّاخ‏:‏

من اللواتي إذا لانت عريكتها *** يبقى لها بعدها آل ومجلودُ

ويقول الآخر‏:‏

إن أخا المجلود من صَبَرا ***

ومن ذلك إقامة المصدر مقام الفعل، ويقولون‏:‏ لقيت زيدًا وقِيْلَهُ كذا أيَ يقول كذا‏.‏ قال كعب‏:‏

يسعى الوُشاةُ حوالَيْها وقِيلَهمُ *** إنَّك يا ابن أبي سُلْمي لمقتولُ

تأويله‏:‏ يقولون‏.‏ ولذلك نُصب‏.‏

ومن ذلك وضعهم فَعِيلًا في موضع مُفْعَل نحو أمرٌ حكيم بمعنى مُحكَم‏.‏ ووضعهم فَعِيلًا في موضع مَفْعِل نحو‏:‏ ‏{‏عذابٌ ألِيم‏}‏ بمعنى مؤلم وتقول‏:‏

أمِنْ رَيحانَةَ الداعي السميعُ

بمعنى‏:‏ مسْمِع‏.‏

ومن ذلك وضعُهم‏:‏ مفعولًا بمعنى فاعل كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏حِجابَا مستورا‏}‏ أي ساترًا، وقيل‏:‏ مستورًا عن العيون كأنّه أُخْذَةٌ لا يُحِسُّ بها أحد‏.‏

ومن ذلك إقامة الفعل مقام الحال كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏يا أيّها النبيّ لمَ تَحْرِّمُ ما أحَلَّ الله لك تَبْتَغي مرْضاةَ أزواجك‏}‏ أي مبتغيًا‏.‏ وقال‏:‏

الرِّيحُ تَبكـي شَـجْـوَهُ *** والبرقُ يَلمعُ في غمامهْ

أراد‏:‏ لامعًا‏.‏

باب من النظم الذي جاء في القرآن

من نظم كتاب الله جلّ ثناؤه‏:‏ الاقتصاص - وهو أن يكون كلام في سورة مقتصًا من كلام في سورة أخرى أو في السورة معها‏.‏ كقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وآتيناهُ أجْرَهُ في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ والآخرة دار ثواب لا عمل، وهو مقْتَصُّ عن قوله‏:‏ ‏{‏ومن يأْتِه مؤمنًا قد عَمِل الصالحات فأولئك لهم الدرجاتُ العلى‏}‏‏.‏ ومنه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ولولا نعمةُ ربي لكنتُ من المحْضَرين‏}‏ مأخوذ من قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏فأولئك في العذاب محضرَون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثمّ لنحْضِرَنّهم حول جهنم‏}‏‏.‏ فأما قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ويومَ يقوم الأشْهاد‏}‏ فيقال‏:‏ إنها مقتصة من أربع آيات لأن الأشهاد أربعة‏:‏ الملائكة في قول جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وجاءت كلُّ نفْس معها سائقٌ وشهيد‏}‏ والأنبياءُ صلوات الله عليهم ‏{‏كيف إذا جيئنا من كلّ أمة بشهيد وجيئنا بك على هؤلاء شهيدًا‏}‏ وأمّةُ محمد صلى الله عليه وسلم لقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمةً وَسَطًا لتكونوا شهداءَ على الناس‏}‏ والأعضاءُ لقوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏يومَ تَشْهد عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجُلهم بما كانوا يعملون‏}‏‏.‏

ومن الاقتصاص قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏إني أخاف عليكم يومَ التّناد‏}‏ قرئت مخففةً ومشدَّة‏:‏ فمن شدَّدَ فهو نَدَّ إذا نفر، وهو مُقتصّ من قوله‏:‏ ‏{‏يوم يفرّ المرء من أخيه‏}‏ إلى آخر القصة، ومن خَفّفَ فهو تَفَاعلَ من النِّداء مقتصّ من قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ونادى أصحابُ الجنة أصحابَ النار‏}‏‏.‏ ‏{‏ونادى أصحابُ النار أصحابَ الجنة‏}‏‏.‏ ‏{‏ونادى أصحابُ الأعراف‏}‏ وما أشبه هذا من الآي الذي فيها ذكر النداء‏.‏

باب الأمر المحتاج إلى بيان وبيانه متصل به

قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الأنفال‏}‏ - فبيان هذا السؤال متصل به وهو قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏قل الأنفال لله والرسول‏}‏ ومثله‏:‏ ‏{‏يسألونك ماذا أُحِلَّ لهم قل أحِلّ لكم الطيبات‏}‏ و‏{‏يسألونك عن الساعة قل إنما علمُها عند ربي‏}‏ ومنه ‏{‏أم يقولون شاعر نَترَبَّصُ به رَيْبَ المنون قل تربّصوا‏}‏ فهذا وما أشبه هو الابتداء الذي تمامه متصل بِهِ‏.‏

باب ما يكون بيانه مضمرًا فيه

وذلك مثل قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاؤها وفُتِّحَتْ أبوابها‏}‏ فهذا محتاج إلى بيان لأن ‏{‏حتى إذا‏}‏ لا بد لها من تمام فالبيان ها هنا مُضمرَ، قالوا‏:‏ تأويله‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاؤها جاؤها وفتحت أبوابها ومثله‏}‏ ولو أن قرآنًا سُيِّرَتْ به الجبالُ فتمامه مضمر كأنه قال جلّ ثناؤه‏:‏ لكان هذا القرآن‏.‏ وهذا هو الذي يسمّى في سنن العرب باب الكَفّ وقد ذُكر‏.‏

باب ما يكون بيانه منفصلًا منه

ويجيء في السورة معها أو في غيرها

قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وأوفوا بعهدي أوف بعهدِكم‏}‏ قال أهل العلم‏:‏ بيانُ هذا العهد قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي‏}‏ الآية، فهذا عهده جل ثناؤه، وعهدُهم تمام الآية في قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏لأُكَفِّرَنّ عنكم سيئاتِكم‏}‏ فإذا وَفوا بالعهد الأول أعطوا ما وعدوه‏.‏ وقال جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏ويقول الذين كفروا ألستَ مرسلًا‏}‏ فالردّ على هذا قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏يس والقرآن الحكيم إنّك لَمِنَ المرسلين‏}‏ وهذا هو الذي يسميه أهل القرآن جوابًا‏.‏ ومن الباب قوله جلّ ثناؤه في الإخبار عنهم‏:‏ ‏{‏ربًّنا اكشفْ عنا العذاب إنّا مؤمنون‏}‏ فقيل لهم‏:‏ ‏{‏ولو رَحِمْناهم وكشفنا ما بهم من ضُرٍّ لَلَجُّوا في طغْيانهم‏}‏‏.‏

ومن الباب قوله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نُزِّلَ هذا القرآنُ على رَجُل من القريتين عظيم‏}‏ فردّ عليهم حين قيل‏:‏ ‏{‏وربُّك يخلق ما يشاء وَيَخْتارُ ما كان لهم الخِيْرَةُ‏}‏ ومن الباب قوله‏:‏ ‏{‏وإذا قيلَ لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن‏}‏ ومنه قوله‏:‏ ‏{‏الرحمن علَّم القرآن‏}‏‏.‏ ومنه قوله‏:‏ ‏{‏قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا‏}‏ فقيل هلم‏:‏ ‏{‏لَئِن اجتَمَعَتِ الإنسُ والجِنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأْتونَ بمثله‏}‏‏.‏ ومنه ‏{‏وانْطَلَق الْمَلأُ منهم أنِ امشوا واصبروا على آلهتكم‏}‏ فقيل لهم في الجواب ‏{‏فإن يصبروا فالنار مَثْوىً لهم‏}‏‏.‏ ومنه‏:‏ ‏{‏أم يقولونَ نحن جميعٌ مُنتَصِر‏}‏ فقيل لهم‏:‏ ‏{‏ما لَكم لا تَناصَرْونَ‏}‏‏.‏ ومنه قوله جل ثناؤه في قَصّة من قال‏:‏ ‏{‏لَوْ أطاعونا ما قُتِلوا‏}‏ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏لو كنتم في بيوتكم لَبرَزَ الذين كُتِبَ عليهم القَتلُ إلى مَضاجِعهم‏}‏‏.‏

‏"‏تَقَوَّلَه‏:‏ فردَ عليهم‏:‏ ‏{‏ولو تَقوَّلَ علينا بعضَ الأقاويل لأخَذْنا منه باليمين‏}‏‏.‏ ومنه قوله جل ثناؤه حكاية عنهم‏:‏ ‏{‏ما لِهذا الرّسول يَأُكل‏}‏ ومن الباب قوله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏أمْ يقولونَ تَقَوَّلَه‏}‏ فردّ عليهم‏:‏ ‏{‏ولو تَقوَّلَ علينا بعضَ الأقاويل لأخَذْنا منه باليمين‏}‏‏.‏ ومنه قوله جلّ ثناؤه حكاية عنهم‏:‏ ‏{‏ما لِهذا الرّسول يَأُكل الطَّعامَ ويَمشي في الأسواق‏}‏ قيل لهم‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا قبلَك من المرْسَلين إلاَّ أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق‏}‏ ومنه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لولا نُزِّلَ عليه القرآن جُملةً واحدة‏}‏ فقيل في سورة أخرى‏:‏ ‏{‏وقرآنًا فَرَقْناه‏}‏‏.‏ ومنه‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلْنا إلى ثَمْود أخاهم صالحًا أنِ اعبدوا الله فإذا هم فَرِيقان يَخْتَصِمون‏}‏ فتفسير هذا الاختصام ما قيل في سورة أخرى‏:‏ ‏{‏قال الملأُ الذين اسْتَكْبَروا من قومه للذينَ اسْتُضْعِفوا لِمَن آمَنَ منه أتَعلمون أنَ صالحًا مرسَل من ربّه‏}‏ إلى آخر القصّة‏.‏

وقال في قصّة قوم‏:‏ ‏{‏لَهم البشرى في الحياة الدنيا‏}‏ فالبشرى قوله جلّ ثناؤه في موضع آخر‏:‏ ‏{‏تنزَّلُ عليهم الملائكةُ ألاّ تخافوا ولا تَحزنوا وأبْشِروا بالجنة‏}‏‏.‏ ومنه حكايةً عن فِرعون أنه قال‏:‏ ‏{‏وما أهْدِيكم إلى سبيل الرَّشاد‏}‏ فردّ الله عليه في قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وما أمرُ فرعون برشيد‏}‏‏.‏ ومن الباب قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏يومَ يَبعثهم الله جميعًا فيحلفون له‏}‏ وذِكْرُ هذا الحَلِف في قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏والله ربِّنا ما كنا مشركين‏}‏‏.‏ ومنه قَوله جلّ وعزّ في قصة نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏إنّي مغلوبٌ فانْتَصِرْ‏}‏ فقيل في موضع آخر‏:‏ ‏{‏ونَصرناه مِن القوم الذين كذَّبوا بآياتنا‏}‏‏.‏ ومنه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا غلْفٌ‏}‏ أي أوْعِيةَ للعلم فقيل لهم‏:‏ ‏{‏وما أوتِيتُم من العلم إلا قليلًا‏}‏ وهذا في القرآن كثير أفْرَدْنا له كتابًا وهو الذي يسمّى ‏"‏الجوابات‏"‏‏.‏

باب آخر من نظوم القرآن

وذلك أن تجيءَ الكلمة إلى جنب الكلمة كأنها في الظاهر معها، وهي في الحقيقة غير متصلة بها‏:‏ قال الله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏إنّ الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعِزَّةَ أهلها أذلةً وكذلك يفعلون‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك يفعلون‏}‏ ومن قولِ الله جلّ اسمه لا قول المرأة ومنه‏:‏ ‏{‏الآنَ حَصْحَصَ الحقّ أنا راودتُه عن نفسه وإنه لمن الصادقين‏}‏ - انتهى قول المرأة ثم قال يوسف – ‏{‏ذلك ليعلم المَلِكُ أني لم أخنْه بالغيب‏}‏‏.‏ ومنه ‏{‏يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا من مَرْقَدِنا‏}‏ - وتمَّ الكلام فقالت الملائكة – ‏{‏هذا ما وَعَدَ الرحمن‏}‏ ومنه قوله جل ثناؤه‏:‏ ‏{‏إن الذين اتَّقَوْا إذا مسَّهم طائفٌ من الشيطان تَذَكَّروا فإذا هم مُبْصِرون‏}‏ - فهذه صفة الأتقياء المؤمنين ثم قال – ‏{‏وإخوانُهم يُمِدُّونهم في الغَيّ‏}‏ فهذا رَجّع على كفّار مكة أنّ كفارَ يُمِدُّهم إخوانُهم من الشياطين في الغّيِّ‏.‏

باب إضافة الشيء إلى من ليس له لكن أضِيفَ إليه لاتِّصاله به

وذلك قوله‏:‏ سَرْجُ الفَرَس وثَمَرةُ الشجرة وغَنَمُ الرّاعي قال الشاعر‏:‏

فَروّحَهنَّ يَحْدُوهنَّ قَصْـدا *** كما يَحْدُو قَلائِصَهُ الأجِيرُ

باب آخر من الإضافة

ومن ذلك إضافَةُ الشيء إلى نفسه وإلى نعته‏.‏

فالإضافة الأولى قول النَّمِر‏:‏

سقيَّةُ بين أنـهـارٍ ودُورٍ *** وزَرْعٍ نابٍ وكرُومِ جَفْنِ

والجَفْن هو الكَرْم‏.‏

فأمّا إضافته إلى نعته فقولهم‏:‏ بارِحةُ الأولى‏.‏ ويومُ الخَميس‏.‏ ويوم الجمعة‏.‏ وفي كتاب الله جلّ ثناؤه‏:‏ ‏{‏ولَدَار الآخرة‏}‏ و‏{‏وحَقُّ اليقين‏}‏‏.‏